فصل: تفسير الآيات (14- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (14- 21):

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)}
وقوله سبحانه: {خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار وَخَلَقَ الجان مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} الآية: اخْتُلِفَ في اشتقاقِ الصَّلْصَال؛ فقيل: هو من صَلَّ: إذا أَنْتَنَ، فهي إشارةٌ إلى الحَمْأَةِ، وقال الجمهور: هو من صَلَّ: إذَا صَوَّتَ، وذلك في الطين لجودته، فهي إشارة إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحُرِّ؛ وذلك أَنَّ اللَّه تعالى خلقه من طين مختلِفٍ، فمرَّةً ذكر في خلقه هذا، ومرَّةً هذا، وكُلُّ ما في القرآن صفاتٌ ترددتْ على التراب الذي خُلِقَ منه، والفَخَّارُ: الطين الطَّيِّبُ إذا مَسَّهُ الماء فخر، أي: رَبَا وَعَظُمَ، والجانُّ: اسم جنس كالجِنَّةِ، قال الفخر: وفي الجانِّ وجه آخر: أنَّه أبو الجنِّ، كما أَنَّ الإنسان هنا أبو الإنْسِ خُلِقَ من صَلْصَالٍ، ومَنْ بعده خُلِقَ من صُلْبِهِ؛ كذلك الجَانُّ هنا أبو الجَنِّ خُلِقَ من نارٍ، ومَنْ بعده من ذرِّيَّتِهِ، انتهى، والمارج: اللهب المُضْطَرِبْ من النار، قال ابن عباس: وهو أحسنُ النَّارِ المختلِطِ من ألوانٍ شتى، قال أبو حيَّان: المَارِجُ المختلِطُ من أصْفَر، وأخضَرَ، وأحْمَرَ، انتهى.
وكَرَّرَ سبحانه قوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ}؛ تأكيداً وتنبيهاً للنفوس، وتحريكاً لها، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة، وهي من كتاب اللَّه في مواضع؛ وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب، وذهب قوم إلى أَنَّ هذا التكرار إنَّما هو لما اختلفت النعم المذكورة كَرَّرَ التوقيفَ مع كُلِّ واحدة منها، قال * ع *: وهذا حسَنٌ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: التكرار لِطَرْدِ الغَفْلَةِ، وللتأكيد، وخَصَّ سبحانه ذكرَ المَشْرِقَيْنِ والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما؛ لعظمهما في المخلوقات.
* ت *: وتحتمل الآية أَنْ يرادَ المشرقين والمغربين وما بينهما كما هو في سورة الشعراء واختلف الناس في {البحرين}؛ قال * ع *: والظاهر عندي أَنَّ قوله تعالى: {البحرين} يريد بهما نَوْعَي الماءِ العَذْبِ والأُجِاجِ، أي: خلطهما في الأرض، وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض، قريب بعضهما من بعض، ولا بَغْيَ، قال * ع *: وذكر الثعلبيُّ في {مَرَجَ البحرين} ألغازاً وأقوالاً باطنةً يجب أَلاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ منها.
* ت *: ولا شَكَّ في اطِّرَاحِهَا، فمنها نقله عن الثوريِّ {مَرَجَ البحرين}: فاطمة وعليٌّ، {الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}: الحَسَنُ والحُسَيْنُ، ثم تمادى في نحو هذا مِمَّا كان الأولى به تركُهُ، ومَرِجَ الشَّيْءُ، أي: اختلط، والبَرْزَخُ: الحاجز، قال البخاريُّ {لاَّ يَبْغِيَانِ}: لا يختلطان، انتهى، قال ابن مسعود: {وَالمَرْجَانُ}: حجر أحمر، وهذا هو الصواب، قال عطاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: وهو البُسذ.

.تفسير الآيات (22- 25):

{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)}
وقوله سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} قال جمهور من المتأولين: إنما يخرُج ذلك من الأُجَاجِ في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة؛ فلذلك قال: {مِنْهُمَا}.
* ت *: وهذا بناء على أَنَّ الضمير في {مِنْهُمَا} للعذب وللمالح، وأَمَّا على قول مَنْ قال: إنَّ البحرين بَحْرُ فَارِسَ والرُّومِ، أو بَحْر القُلْزُمِ وبَحْرُ الشَّامِ فلا إشكالَ؛ إذْ كُلُّها مالحةٌ، وقد نقل الأخفش عن قوم؛ أَنَّهُ يخرج اللؤلؤ والمرجان من المالح ومن العذب، وليس لِمَنْ رَدَّهُ حُجَّةٌ قاطعة، ومَنْ أَثْبَتَ أولى مِمَّنْ نفى، قال أبو حيَّان: والضمير في {مِنْهُمَا} يعود على البحرين، يعني: العَذْبَ والمَالِحَ، والظاهرُ خروجُ اللؤلؤِ والمَرْجَانِ منهما، وحكاه الأخفَشُ عن قوم، انتهى، والجَوَارِي: جمع جارية، وهي السُّفُنُ، وقرأ حمزة وأبو بكر: {المنْشِئَاتُ} بكسر الشين، أي: اللواتي أنشأْنَ جَرْيَهُنَّ، أي: ابتدأْنَهُ، وقرأ الباقون بفتح الشين، أي: أنشأها اللَّهُ أو الناسُ، وقال مجاهد: {المنشئات}: ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن {كالأعلام}، أي: كالجبال.
* ت *: ولفظ البخاريِّ: {المنشئات}: ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن، فأَمَّا ما لا يرفعُ قِلْعُهُ، فليس بمنشآت، انتهى.

.تفسير الآيات (26- 28):

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}
وقوله سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي: على الأرض {فَانٍ} والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، والوجه: عبارة عن الَّذَاتِ، لأَنَّ الجارحة منفيَّةٌ في حَقِّه سبحانه؛ قال الداوديُّ: وعن ابن عباس {ذُو الجلال}: قال: ذو العظمة والكبرياء، انتهى.

.تفسير الآيات (29- 36):

{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)}
وقوله سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَن في السموات والأرض} أي: مِنْ مَلَكٍ، وإنس، وجنٍّ، وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كُلُّهم يَسْأَله حاجَتَهُ، إمَّا بلسانِ مقاله، وإمَّا بلسانِ حاله.
وقوله سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ} أي: يُظْهِرُ شأناً من قدرته التي قد سبقت في الأَزَلِ في ميقاته من الزمان، من إحياءٍ وإماتةٍ، ورِفْعَةٍ وخَفْضٍ، وغيرِ ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلاَّ هو سبحانه، والشأن: هو اسم جنس للأمور، قال الحسين بن الفضل: معنى الآية: سَوْقُ المقادير إلى المواقيت؛ وفي الحديث: «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هذه الآيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هذا الشَّأْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَغْفِرُ ذَنْبَاً، وُيُفَرِّجُ كَرْباً، وَيَرْفَعُ قَوْماً، وَيَضَعُ آخَرِينَ» وذكر النَّقَّاش أَنَّ سبب هذه الآيةِ قولُ اليهود: استراح اللَّهُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلاَ يُنَفِّذُ فِيهِ شَيْئاً.
وقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان}: عبارة عن إتيان الوقت الذي قَدَّرَ فيه، وقضى أَنْ ينظرَ في أُمور عباده، وذلك يوم القيامة، وليس المعنى: أَنَّ ثَمَّ شغلاً يتفرَّغ منه؛ إذْ لا يشغله سبحانه شأنٌ عن شأن، وإنَّما هي إشارةُ وعيدٍ وتهديدٍ، قال البخاريُّ: وهو معروفٌ في كلام العرب؛ يقال: لأَفْرُغَنَّ لَكَ، وما به شُغُلٌ، انتهى، و{الثقلان}: الإِنس والجن؛ يقال: لكل ما يَعْظُمُ أمرُه: ثَقَلٌ، وقال جعفرُ بْنُ محمَّدٍ الصَّادِقُ: سُمِّيَ الإنْسُ والجِنُّ ثَقَلَيْنِ؛ لأَنَّهما ثَقُلاَ بالذنوبِ، قال * ع *: وهذا بارعٌ ينظر إلى خلقهما من طين ونار، واختلف الناسُ في معنى قوله تعالى: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ...} الآية: فقال الطبريُّ: قال قوم: المعنى: يُقَالُ لهم يومَ القيامة: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم...} الآية، قال الضَّحَّاك: وذلك أَنَّهُ يَفِرُّ الناسُ في أقطار الأرض، والجِنُّ كذلك؛ لما يَرَوْنَ من هول يوم القيامة، فيجدون سَبْعَةَ صفوف من الملائكة، قد أحاطَتْ بالأرض، فيرجعون من حيثُ جاؤوا، فحينئذٍ يقال لهم: {يامعشر الجن والإنس}، وقال بعض المفسِّرين: هي مخاطبةٌ في الدنيا، والمعنى: إنِ استطعتم الفِرَارَ مِنَ المَوْتِ بأنْ تَنْفُذُوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا.
* ت *: والصوابُ الأول.
وقوله: {فانفذوا}: صيغة أمر، ومعناه: التعجيز، والشُّوَاظُ: لَهَبُ النار؛ قاله ابن عباس وغيره، قال أبو حَيَّان: الشُّوَاظُ: هو اللهب الخالصُ بغَيْرِ دُخَانٍ، انتهى، والنُّحَاسُ: هو المعروف؛ قاله ابن عباس وغيره، أي: يُذَابُ ويُرْسَلُ عليهما، ونحوه في البخاريِّ، قال * ص *: وقال الخليل: النُّحَاسُ هنا هو: الدُّخَانُ الذي لا لَهَبَ له، ونقله أيضاً أبو البقاء وغيره، انتهى.

.تفسير الآيات (37- 45):

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}
وقوله سبحانه: {فَإِذَا انشقت السماء}: جواب إِذامحذوفٌ مقصودٌ به الإِبهام؛ كأَنَّه يقول: فإذا انشقَّتِ السماءُ، فما أَعْظَمَ الهَوْلَ! قال قتادة: السماءُ اليومَ خَضْرَاءُ، وهي يوم القيامة حَمْرَاءُ، فمعنى قوله: {وَرْدَةً} أي: مُحْمَرَّةً كالوَرْدَةِ، وهي النُّوَّارُ المعروفُ؛ وهذا قول الزَّجاجِ وغيره.
وقوله: {كالدهان} قال مجاهدٌ وغيره: هو جمع دُهْنٍ؛ وذلك أَنَّ السماء يعتريها يومَ القيامة ذَوْبٌ وتَمَيُّعٌ من شِدَّةِ الهَوْلِ، وقال ابن جُرَيْجٍ: من حَرِّ جَهَنَّمَ، نقله الثعلبيُّ، وقيل غير هذا.
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} قال قتادة وغيره: هي مواطنُ؛ فلا تعارُضَ بين الآيات.
وقوله سبحانه: {فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام} قال ابن عباس: يُؤْخَذُ كُلُّ كافر بناصيته وقدَمَيْهِ، ويطوى، ويُجمَعُ كالحَطَبِ، ويلقى كذلك في النار، وقيل: المعنى: أَنَّ بعضَ الكفرة يُؤْخَذُونَ بالنواصي، وبعضُهم يُسْحَبُونَ، ويُجَرُّون بالأقدام.
وقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ} أي: يقال لهم على جهة التوبيخ، وفي مصحف ابن مسعود: {هذه جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمَا بِهَا تُكَذِّبَانِ لاَ تَمُوتَانِ فِيهَا وَلاَ تَحْيَيَانِ}.
وقوله سبحانه: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} المعنى: أَنَّهم يتردَّدون بين نارِ جهنَّم وَجَمْرِهَا، وبين حميمٍ، وهو ما غُلِيَ في جهنَّم من مائع عذابها، وآنَ الشَّيْءُ: حَضَرَ، وآنَ اللَّحْمُ أو ما يُطْبَخُ أوْ يغلى: نَضِجَ وتناهى حَرُّهُ، وكونُهُ من الثاني أَبْيَنُ.

.تفسير الآيات (46- 57):

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)}
وقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي: موقِفَهُ بينَ يَدَيْ ربه، وقيل في هذه الآية: إنَّ كُلَّ خائف له جَنَّتَانِ.
* ت *: قال الثعلبيُّ: قال محمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الترمذيُّ: جَنَّةٌ لخوفه من ربِّه، وجنَّةٌ لتركه شهوَته، والأَفْنَان: يحتمل أنْ تكون جمع فَنَنٍ، وهو الغُصْن، وهذا قولُ مجاهد، فكأَنَّهُ مدَحَهَا بظلالِهَا وتَكَاثُفِ أغصانها، ويحتمل أنْ تكونَ جمع فَنٍّ، وهو قول ابن عباس، فكأَنَّه مدحها بكثرة فواكِهِهَا ونعيمِهَا، و{زَوْجَانِ} معناه: نَوْعَانِ.
* ت *: ونقل الثعلبيُّ عنِ ابنِ عَبَّاس قال: ما في الدنيا شجرةٌ حُلْوَةٌ ولا مُرَّةٌ إلاَّ وهي في الجنة، حتى الحَنْظَلُ إلاَّ أَنَّهُ حُلْوٌ انتهى.
و{مُتَّكِئِينَ}: حالٌ، وقرأ الجمهور: {عَلَى فُرُشٍ} بضم الراء، ورُوِيَ في الحديث «أَنَّه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذِهِ الْبَطَائِنُ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَكَيْفَ الظَّوَاهِرُ؟! قَالَ: هِيَ مِنْ نُورٍ يَتَلأَلأُ»، والإِستبرقُ: ما خَشُنَ وحَسُنَ من الدِّيبَاجِ، والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ منه، وقد تقدَّم القولُ في لفظ الإِسْتَبَرقِ، والضميرُ في قوله: {فِيهِنَّ} لِلْفُرُشِ، وقيل: للجنات، إذِ الجنتان جناتٌ في المعنى، والجنى: ما يجنى من الثمار، ووصفه بالدُّنُوِّ؛ لأَنَّه يدنو إلى مشتهيه، فيتناوله كيف شاء من قيام، أو جلوس، أو اضطجاع، رُوِيَ معناه في الحديث، و{قاصرات الطرف}: هُنَّ الحور، قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجهن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} أي: لم يفتضَّهنَّ؛ لأَنَّ الطَّمْثَ دَمُ الفَرْجِ.
وقوله: {وَلاَ جَانٌّ} قال مجاهد: الجن قد تُجَامِعُ نساءَ البَشَرِ مع أزواجهن إذا لم يذكر الزوجُ اسمَ اللَّه، فنفى سبحانَهُ في هذه الآية جميعَ المجامعاتِ.

.تفسير الآيات (58- 61):

{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)}
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} الآية، الياقوتُ والمَرْجَان هي من الأشياء التي قد بَرَعَ حُسْنُهَا، واستشْعَرَتِ النفوسُ جلالتها، فوقع التشبيه بها فيما يشبه، ويحسن بهذه المُشَبَّهَاتِ، فالياقوتُ في املاسه وشُفُوفِهِ، ولو أدخلْتَ فيه سِلْكاً، لرأيته من ورائه، وكذلك المرأة من نساء الجنة يُرَى مُخُّ ساقها من وراء العَظْم، والمَرْجَانُ في املاسِّه وجمالِ منظره.
وقوله سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان}: آيةُ وَعْدٍ وبَسْطٍ لنفوسِ جميعِ المؤمنين؛ لأَنَّها عامَّةٌ؛ قال ابن المُنْكَدِرِ، وابن زيد، وجماعةٍ من أهْلِ العلم: هي لِلْبَرِّ والفاجر، والمعنى: أَنَّ جزاءَ مَنْ أحْسَنَ بالطاعةِ أَنْ يُحْسَنَ إليه بالتنْعِيمِ، وحكى النَّقَّاشُ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ هذه الآية: هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ إلاَّ الجَنَّةُ.
* ت *: ولو صَحَّ هذا الحديثُ، لوجَبَ الوقوفُ عنده، ولكنَّ الشأن في صِحَّتِهِ، قال الفخر: قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} فيه وجوهٌ كثيرةٌ، حتى قيل: إنَّ في القرآن ثلاثَ آيات، في كل واحدة منها مائةُ قَوْلٍ، إحداها: قوله تعالى: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وثانيتُهَا: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] وثالثتها: {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} ولنذكر الأشهر منها والأقرب:
أما الأشهر فوجوه.
أحدها: هل جزاء التوحيدِ إلاَّ الجنةُ، أي: هل جزاءُ مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه إلاَّ دخولُ الجَنَّةِ.
ثانيها: هل جزاءُ الإحسان في الدنيا إلاَّ الإحسانُ في الآخرة.
ثالثها: هل جزاء مَنْ أحسنَ إليكم بالنعم في الدنيا إلاَّ أَنْ تَحْسِنُوا له العبادَةَ والتقوى.
وأمَّا الأقرب فهو التعميم، أي: لأنَّ لفظ الآية عامٌّ، انتهى.

.تفسير الآيات (62- 78):

{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}
وقوله سبحانه: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال ابْنُ زَيْدٍ وغيره: معناه أَنَّ هاتين دون تَيْنِكَ في المنزلة والقُرْبِ، فالأُولَيَانِ للمقرَّبين، وهاتان لأصْحَابِ اليَمِينِ، وعن ابن عباس: أَنَّ المعنى: أَنَّهُمَا دونهما في القرب إلى المُنَعَّمِينَ، وأَنَّهُما أفضلُ من الأُولَيَيْنِ، قال * ع *: وأكثر الناس على التأويل الأول.
* ت *: واختار الترمذيُّ الحكيمُ التأويلَ الثاني، وأطنب في الاحتجاج له في نوادر الأصول له، وخَرَّجَ البخاريُّ هنا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا...» الحديث، وفيه: «إنَّ في الجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، في كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْل مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ» انتهى، و{مُدْهَامَّتَانِ} معناه: قد علا لَوْنَهُمَا دُهْمَةٌ وَسَوَادٌ في النَّظْرَةِ والخُضْرَة، قال البخاريُّ: {مُدْهَامَّتَانِ}: سودَاوَانِ من الرِّيِّ، انتهى، والنَّضَّاخَةُ: الفَوَّارَةُ التي يَهِيجُ ماؤُها، وكَرَّرَ النخلَ والرُّمَّانَ، وهما من أفضل الفاكهة؛ تشريفاً لهما، وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: «قلتُ: يا رسول اللَّه، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {خيرات حِسَانٌ} قالَ: خَيْرَاتُ الأَخْلاَقِ، حِسَانُ الْوُجُوهِ» وَقُرِئ شاذّاً: «خَيِّرَاتٌ» بِشَدِّ الياء المكسورة.
* ت *: وفي صحيح البخاريِّ من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَرَوْحَة في سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِ سَوْطِهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امرأة مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطلعت إلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحاً، وَلَنَصِيفُهَا على رَأْسِهَا يعني الخِمَارَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وقوله سبحانه {مقصورات} أي: محجوبَاتٌ مَصُونَاتٌ في الخيام، وخيامُ الجَنَّةِ بُيُوتُ اللؤلؤ، قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللَّهُ عنه: هي دُرٌّ مُجَوَّفٌ، ورواه ابن مَسْعَودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال الداوديُّ: وعن ابن عباس: والخيمة لؤلؤة مجوَّفة فَرْسَخٌ في فَرْسَخٍ، لها أربعة آلاف مِصْرَاعٍ، انتهى.
والرَّفْرَفُ: ما تدلى من الأَسِرَّةِ من عالي الثياب والبُسُطِ، وقاله ابن عَبَّاس وغيره، وما يتدلى حول الخِبَاءِ مِنَ الْخِرْقَةِ الهَفَّافَةِ يُسَمَّى رَفْرَفاً، وكذلك يُسَمِّيه الناسُ اليومَ، وقيل غَيْرُ هذا، وما ذكرناه أصْوَبُ، والعَبْقَرِيُّ: بُسُطٌ حِسَانٌ، فيها صُوَرٌ وغَيْرُ ذلك، تُصْنَعُ بعَبْقَر، وهو موضعٌ يُعْمَلُ فيه الوشْيُ والدِّيبَاجُ ونحوه، قال ابن عباس: العَبْقَرِيُّ: الزَّرَابِيُّ، وقال ابن زيد: هي الطَّنَافِس، قال الخليل والأصمعيُّ: العَرَبُ إذا استحسنَتْ شيئاً واستجادَتْهُ قالَتْ: عَبْقَرِيٌّ، قال * ع *: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عُمَرَ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ». وقوله سبحانه: {تبارك اسم رَبِّكَ ذِى الجلال والإكرام}: هذا الموضعُ مِمَّا أُرِيدَ فيه بالاسم مُسَمَّاهُ، والدعاءُ بهاتَيْنِ الكلمتَيْنِ حَسَنٌ مَرْجُوُّ الإجابةِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أَلِظُّوا ب يَاذَا الْجَلاَلِ وَالإكْرَام.